بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي
يُجمع
الباحثون والمهتمون في الشأن السياسي والعسكري، وتؤكد الوقائع التاريخية والوثائق
التي تؤرشف تاريخ الحروب في العالم، بان الامريكان ليسوا دعاة بناء وسلام خارج
القارة الأمريكية، وإنما دعاة للتدمير والخراب وقتل الشعوب من خلال انتهاجهم لسياسة
الارض المحروقة في كل الحروب التي خاضتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية
بمساعدة بريطانيا وعدد من الدول الأوربية، التي شاركتها فعاليات القتل والتدمير لدول
عامرة في الشرق الاوسط اكثرها عربية وإسلامية، من بينها اليمن، والعراق، وسورية،
وليبيا، وسبقتهما أفغانستان، التي يَعرف القاصي والداني قصتها مع أمريكا والقوى الغربية
وعلى رأسها بريطانيا. ولذلك يمكن قراءة ما وراء
الانسحاب الأمريكي من افغانستان وعودة طالبان للسلطة بعد (20) عاماً، في ثلاثة
محاور:
اولاً: ان مآسي
التدخل الامريكي وحليفاته الغربية في الشرق الاوسط، بدءاً من افغانستان الى اليمن
والعراق وسورية وانتهاءً بليبيا، وصناعة التنظيمات الارهابية المتطرفة دينياً
(القاعدة) و(داعش)، أدت بالنتيجة الى نزوح جماعي للسكان الى اوربا، الذين كانوا
يقطنون هذه البلدان آمنين نسبياً، والذي سبب ازمة كبيرة في دول الاتحاد الاوربي، خاصة
فيما يتعلق في كيفية استيعاب الاعداد المهولة من اللاجئين، ومواجهة المشاكل التي رافقتهم
لصعوبة الاندماج في المجتمعات الغربية، الى جانب الازمة الصحية لجائحة كورونا التي
ادت الى تراجع اقتصادي وصحي كبير، الامر الذي جعل قادة الاتحاد الاوربي ينادون
بشدة بضرورة ارجاع اللاجئين الى بلدانهم، حيث رصدوا لهذا الامر عام 2021 اموالاً
طائلة فاقت الـ(79) مليار يورو، لتوفير البيئة الملائمة لإعادة الاستقرار في منطقة
الشرق الاوسط أملاً بالعودة الطوعية لطالبي اللجوء، حيث كانت القضية بحاجة الى
دراسة وتوافق امريكي - اسرائلي- اوربي.
أمريكا، من
جانبها، اخذت تفكر مليا ومعها الغرب كله بمصالحها المشتركة المهددة من قبل الصين
وروسيا، وربما ايران ايضاً، خاصة بعد قمة G7 التي عقدت في بريطانيا للفترة من 11-13 حزيران عام ٢٠٢١،
وعليه جاء القرار بالانسحاب من افغانستان لإنهاء الصراع مع الاعداء الصغار
"صنيعتهم" مثل "طالبان" و"القاعدة"
و"داعش"، وتحويلهم الى اصدقاء، وحلفاء فاعلين بعد ان انهوا المهمة الموكلة
اليهم خلال السنين المنصرمة، والتوجه بشكل جماعي ضد الاعداء "الكبار"
وهم الصين، التي باتت تحلم كثيرا منذ عام ٢٠١٧ بنجاح مبادرة (الحزام والطريق) الذي
يربط اسيا وافريقيا واوربا، وكذلك الوقوف بحزم ضد روسيا التي باتت عصية على الغرب
بقيادة فلاديمير بوتين، ومن ضمنهم كذلك ايران صاحبة البرنامج النووي الذي مازال
يرهق الغرب في مباحثات فيينا، اذا ما تم رفع التكليف عنها، وانضمت الى التحالف
الامريكي في نهاية المطاف، وهو اقرب الى الحقيقة وابعد منه الى الاستمرار بالعداء
غير المبرر ومضمون النتائج مع الغرب والمحيط الاقليمي، وذات المردود السلبي على
الوضع الداخلي في ايران.
وهذا الامر
ربما سيسير بشقين؛ الاول يتجسد في العمل على مصالحة شاملة بين حلفاء امريكا
وخصومها "الصغار" من جهة، وهم افغانستان، باكستان، ايران، تركيا،
العراق، سورية، دول الخليج، مصر، والاردن، وكذلك مصالحة امريكا مع دول الشرق الاوسط
الاسلامية مجتمعة من جهة اخرى، بهدف كسب ودهم كحلفاء وليسوا فقط كـ"عملاء"
صغار في مواجهة الصين وروسيا في الحرب العالمية الثالثة محتملة الحدوث في المستقبل،
والتي نظَّر لها هنري كيسنجر كثيراً في كتاباته، وعلى غرار ما فعلته انكلترا في
الحرب العالمية الاولى حين كسبت ودَّ العرب والدول الاسلامية الى جانبها ضد الدولة
العثمانية.
ولتنفيذ هذا
التوجه، ربما ستكلف امريكا دولة ثالثة في التواصل مع رؤساء الدول انفة الذكر لرعاية
اجتماع مشترك على مستوى الرؤساء للتوصل الى اتفاق بين جميع الاطراف لغرض تحقيق مصالحة
شاملة وضمان عدم التدخل في الشؤون الداخلية بعد حلحلة جميع المشاكل برعاية امريكية
وأوربية، يصدر عن المؤتمر اعلان تلتزم بموجبه جميع الاطراف بالاتفاق. اما "اسرائيل"،
بنت الغرب المدللة، فتتم طمأنتها من قبل امريكا وبعض الدول العربية بتحقيق المزيد
من عمليات التطبيع في المستقبل، وإيجاد حل جذري للفلسطينيين، بعد اشراك
"اسرائيل" ايضاً في التحالف الغربي- الشرقي المرتقب ضد الصين وروسيا.
من ناحية
اخرى، ستقوم امريكا وبعض الدول الاوربية والمنظمات الانسانية الدولية في العمل على
استقرار دول الشرق الاوسط، واعادة اعمار ما دمرته الحروب قدر الإمكان من خلال
احياء المشاريع التنموية واعادة اعمار المناطق المدمرة باموال اوربية وخليجية. ومن
هنا ستنطلق حملة اعادة اللاجئين والمهاجرين في اوربا الى بلدانهم الأم، التي جاءوا
منها، بعد توفير البيئة الملائمة نسبياً للعمل والعيش الرغيد.
وبذلك تكون
امريكا وأوربا قد ضربت عصفورين بحجر واحد؛ يكمن الاول في كسب ودّ وتحالف دول الشرق
الاوسط الى جانبها في مواجهة الصين وروسيا، لتحقيق ما قاله لهم الرئيس الامريكي
بايدن "سوف ناتيكم مجتمعين"، وبذلك يكون اوفى بوعده. أما الثاني فيتلخص
بفتح باب عودة اللاجئين طوعاً من اوربا الى بلدانهم دون اثارة منظمات حقوق الانسان
والمجتمع الدولي، ليتخلصوا من عبء اللاجئين الاقتصادي من جهة، وكذلك التخلص قدر
الامكان من مشاكلهم المتمثلة بارتكاب الجرائم والقيام بالأعمال ألإرهابية التي حدثت
مؤخرا في أوربا.
ثانيا: ربما
يكون هناك توجه امريكي آخر مؤيداً اوربياً يتمثل في العمل على اثارة النعرات
الطائفية والخلافات المذهبية في الشرق الاوسط، اي اذكاء التطرف الديني والمذهبي من
جديد لدى التنظيمات الارهابية "القاعدة" و"داعش" بمساعدة "طالبان"
وباكستان ودول الخليج، حيث يدور الحديث حالياً في الاعلام عن تململ هذه التنظيمات
للعودة الى ساحة الصراع مجدداً، بهدف ادخال الارهاب الى روسيا، التي تخشى ذلك
كثيراً، وكذلك الى الصين بحجة دعم ومساندة مسلمي الإيغور المضطهدين من قبل الحكومة
الصينية، وبذلك يتم إنهاء المبادرة الصينية (الحزام والطريق) لمروره في منطقة
ستكون ملتهبة نسبياً.
من ناحية
اخرى، سيعمل الامريكان على تاسيس جبهة ضد ايران واذرعها المسلحة في بعض الدول العربية،
اعداء امريكا كما يسمونهم، وبذلك تنشب حرب طائفية طاحنة بهلالين، الاول "سني"
ممثلاً بـ (القاعدة) و(داعش) و(طلبان)، والثاني "شيعي" ممثلاً بايران
واذرعها المسلحة الممتدة في بعض الدول العربية. وبذلك تبدأ "الحرب
الصفرية" الغربية في الشرق الاوسط لمحاصرة ايران من جميع الجهات، بحيث تكون
امريكا واسرائيل وأوربا بعيدة عن الاحداث عسكرياً لكنها قريبة في الدعم اللوجستي،
وبذلك تكون امريكا قد حققت هدفين في آن واحد، الاول انهاء ايران كقوة في المنطقة
وتصفية اذرعها المسلحة وربما تقسيمها مستقبلا، وثانياً افشال مشروع (الحزام والطريق)
الصيني الذي يمتد من الصين الى اسيا وافريقيا واوربا كما اسلفنا لوقوعه على خط
النار.
ثالثاً: وهذا
ربما الاهم، ان يعمل قادة طالبان على انتهاج مساراً سلمياً غير الذي تأمله الادارة
الأمريكية، وعكس ما صور عن الحركة في الاعلام الغربي على انها حركة ارهابية متطرفة
دينياً، رافضة للحضارة الجديدة والمدنية، ويشرعون في بناء دولتهم العصرية، "امارة
افغانستان الاسلامية" كما يسمونها، على الطراز الاسلامي الحديث والمواكبة
للحداثة والمدنية، اذا ما سمحوا لهم الأمريكان بذلك. لان ما يراه المرء اليوم من
تصرف حذق لقوات طالبان في العمل على حماية ممتلكات الدولة، غير الذي شاهده المرء
أمس في وسائل الاعلام الامريكية والأوربية التي صورتهم في الجبال والكهوف على انهم
مسلمون متطرفون دينياً ومذهبياً، ينتهجون اساليب قاسية في الحياة، ينتهكون من
خلالها حقوق المرأة ويكفرون ويحللون قتل انصار الديانات والطوائف الاخرى.
وخير دليل على
النهج السليم لقادة طالبان حالياً، اعلان الحركة عن نهجها الجديد على لسان الناطق
الرسمي باسم طالبان ذبيح الله مجاهد، عند دخول العاصمة الافغانية كابول في آب 2021
بالقول؛ بان الحركة لا تريد تكرار الحرب والقتال، ولا تريد بناء عداوات في الداخل
ولا في الخارج، وطمئن العالم والولايات المتحدة بان افغانستان سوف لن تكون منطلقا
لاي اعمال إرهابية، والذي رحبت به روسيا، وأكد على التزام الحركة بحقوق المرأة
وحقها في العمل بعدد من القطاعات، وان قادة الحركة سيعملون على اقامة نظام سياسي
اسلامي شامل، كما اعلنت الحركة العفو العام عن المطلوبين، ودعت الموظفين بالعودة
الى أعمالهم، والناس الى ممارسة حياتهم اليومية الطبيعية، وأكدت على حماية البعثات
الدبلوماسية. كل ذلك يعد مؤشرات ايجابية للمتابعين بان "طالبان" اليوم
ليست بـ "طالبان" الأمس، وهذا الامر ربما سيكون الاقرب الى حقيقة
التكهنات في المحاور سالفة الذكر.
لقراءة المزيد من مقالات الكاتب اضغط على الرابط الاتي: مجلة معارج الفكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق