بعد
ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها عام 1945 بهزيمة المانيا النازية، واختفاءها
نهائياً من المشهد السياسي العسكري لصراع القوى العظمى في العالم، والذي نتج عنه
وضع أوربا برمتها تحت الوصاية الامريكية بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي السابق من
مناطق نفوذه في دول أوربا الشرقية، في الوقت الذي زرعت أمريكا الخوف من المانيا في
قلوب الأوربيين، بخاصة الفرنسيين، حينها امست أوربا تُنعت بـ" القارة
العجوز" من قبل الأمريكان، بهدف تقزيم دورها الدولي في السلم والحرب؛ لكنها
تبقى في الوقت ذاته البقرة الحلوب لتمويل الحروب التي تقودها أمريكا في العالم تحت
مسميات مختلفة.
فرغم
ان أوربا اخذت تدرك تماماً هذه الحقيقة منذ خمسينيات القرن الماضي، لكنها لا تريد
ان تُصرح بها جهاراً، لذلك بدأت محاولاتها للخروج من تحت عباءة "القارة
العجوز" لتفرض نفسها على أمريكا والعالم كقوة اقتصادية وعسكرية مؤثرة في
الصراع العالمي، حيث بدأت مشروعها بتأسيس تكتل سياسي واقتصادي فريد من نوعه عُرف بـ"الاتحاد
الأوربي" بموجب معاهدة ماستريخت الموقعة عام 1992، وإنشاء سوق مشتركة ذو عملة
موحدة عُرفت بـ"اليورو"، لتكون نداً للدولار في السوق الاقتصادية وسوق
الأوراق المالية العالمي، والذي يعد ضمناً بمثابة تحدٍ اقتصادي وسياسي واضح وصريح لأمريكا،
رغم ان أوربا "العجوز" مازالت تقف تحت مظلة الحماية الامريكية من
الأعداء الافتراضيين في الغرب والشرق، ومؤيدة وداعمة لها في حروبها العالمية
المدمرة في اطار حلف الناتو.
بعد
مجيء الرئيس ترمب الى السلطة في البيت الأبيض مطلع عام 2017، بدأت أمريكا تكشف عن
وجهها القبيح تجاه أوربا، وتكشر عن انيابها، واضعةً مصلحة أمريكا فوق كل المصالح
"أمريكا أولا"، ولا مكان لمصلحة أوربا في هذا التوصيف، الامر الذي اغضب
بعض الدول الاوربية من بينها فرنسا والمانيا، حينها ايقنت أوربا "العجوز"
حقيقة ان تعتمد على نفسها من خلال تأسيس قوة اوربية مستقلة للدفاع عنها مع الإبقاء
على علاقتها مع أمريكا في اطار حلف الناتو.
لكن أمريكا لا ترغب بان تكون أوربا نداً موازياً لها في الصراع العالمي، وإنما طرفاً
تابعاً لها وتحت وصايتها وقيادتها، كما انها لم تكن تتمنى ان تكون الصين قطباً
منافساً لها باحتلال بعض مناطق النفوذ الاقتصادي في العالم، وان لا ينهض الاتحاد
السوفيتي السابق من جديد تحت مسمى الاتحاد الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين،
وعليها ان تتصرف بحذق بمساعدة بريطانيا العظمى، بعد خروج الأخيرة نهائيا من
الاتحاد الأوربي، للحيلولة دون ظهور هذه القوى على حساب افول نجم الإمبراطورية
الرابعة.
لذلك
فان الولايات المتحدة الامريكية تعمل بهدوء على إقامة صراع مستدام في القارة
الاوربية على ان تكون ألسنة النار بعيدةً عن القارة الامريكية وبريطانيا- كما فعلت
في الشرق الأوسط حين دعته يحترق وأهله يهاجرون الى أوربا كملاذ آمن، وعبء يقابله
صمت القبور- صراع لا تستخدم فيه الأسلحة النووية، لكنه اشبه بحرب عالمية ثالثة
مدمرة تُستنزف فيها القدرات الاقتصادية والبشرية والعسكرية الروسية والأوربية على
حد سواء في اطار الازمة الروسية- الأوكرانية التي تعد بمثابة برميل بارود من المتوقع
انفجاره في أية لحظة، او خلق أي صراع اخر تكون اطرافه قوى لا تسمح لها الولايات
المتحدة الامريكية ان تقاسمها الزعامة العالمية.
وتكمن
المشكلة، بأن قادة الاتحاد الأوربي يدركون تماماً هذه الحقيقة، ويعدونها ضمن
التحديات الخطيرة التي تهدد أمن أوربا خلال السنوات العشر القادمة، لكنهم لم يجرؤا
بمصارحة أمريكا بهذا الهاجس خوفاً من ان تكون له ردود فعلٍ سلبية على دول الاتحاد
الخاضعة للهيمنة الامريكية بشكل مطلق كدول أوربا الشرقية وبعض الدول الغربية. ونتيجة
لذلك بدا الزعماء الأوربيون، وعلى رأسهم فرنسا كقوة نووية والمانيا كقوة اقتصادية،
بالتحرك لبناء منظومة دفاع أوربية مستقلة لها القدرة على الدفاع عن أوربا مع
الإبقاء على ارتباطاتهم بحلف الناتو، وهذا يعد مؤشراً خطيراً بشأن تصدع الثقة وبدء
تلاشيها بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الامريكية كحلفاء استراتيجيين خلال
العقود السابقة.
ان
إصرار روسيا على عدم التخلي عن أوكرانيا ورفضها ان تكون قاعدة لحلف الناتو في
خاصرتها، والتي تَعدُ الصراع من اجلها مسالة حياة أو موت، نابع من عدة أسباب من
أهمها: 1) ان أوكرانيا تُعد البوابة الاقتصادية المهمة التي تستطيع روسيا من
خلالها تصدير الطاقة الى أوربا، وتتمتع الدولتان بمردود مالي مشترك من عملية
التصدير. 2) وجود مصانع روسية في بعض المناطق الأوكرانية لإنتاج الأسلحة وقطع
الغيار العسكرية للجيش الروسي. 3) رفض روسيا ان تكون هناك قواعد عسكرية لحلف
الناتو على الحدود الروسية، وقواعد للتجسس الغربي ضد روسيا وحلفاءها في أوكرانيا.
4) خشية روسيا من ان تكون أوكرانيا مكاناً لمختبرات انتاج الفيروسات الوبائية
للمخابرات الامريكية. 5) وجود جالية كبيرة من أصول روسية تمثل الأغلبية في بعض
المناطق الأوكرانية لها امتدادات اجتماعية وثقافية بالمجتمع الروسي.
لذلك
فان الحلول المطروحة لتغيير التحالفات الدولية بما يتلائم ومصالح الدول لا تكمن
فقط بتأسيس منظومة دفاع اوربية مستقلة لحماية حدود القارة الباردة من الاخطار
المحدقة بها حسب تصوراتهم، وإنما يجب على دول الاتحاد ان تعي حقيقة ان اكثر من 30%
من امدادات الطاقة تأتي من روسيا عبر أوكرانيا، وبما انه ليس هناك عداء روسي- اوربي
بالمعنى الحقيقي، وانما صراع أمريكي - صيني - روسي- على النفوذ العالمي، زُجت به أوربا أمريكياً، إذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان الاتحاد السوفيتي السابق له الفضل
في خلاص دول أوربا الشرقية والمانيا والنمسا من استعمار هتلر...
عليه
يجب ان يعمل قادة الاتحاد الأوربي على إقامة سلام دائم مع روسيا، وعقد اتفاقيات
تعاون سياسية واقتصادية وحسن جوار، بدلاً من تصعيد لهجة الصراع لصالح الولايات
المتحدة الأمريكية، التي تتمنى ان تندلع الحرب بأقرب فرصة ممكنة بين روسيا وأوربا،
تضعف الحليف الصيني الجديد "روسيا"، وفيه "جرت أذن" للحليف الأمريكي
"أوربا"، لكن الامريكان يدركون تماماً هذه المرة بأنهم لا يواجهون قادة
متهورين ومجموعة عملاء كما في الشرق الأوسط، وإنما يتعاملون مع رجل مخابرات وطني
روسي محنك يعرف ماذا يريد، وقادة أوربيين عارفين تماماً حقيقة أمريكا.
لقراءة المزيد من مقالات الكاتب اضغط على الرابط الآتي: مجلة معارج الفكر
هناك تعليقان (2):
أحسنت النشر بارك الله فيك دكتور
مقال اكثد من رائع
مروركم الاروع اخي الغالي ربي يحفظكم
إرسال تعليق