الجمعة، 3 فبراير 2023

نســـــــــاء حائـــــــــــرات

بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي

بات الغرب على قناعة؛ بان هناك "خطأ مطبعي"Tippfehler" أو بالأحرى "خطأ ألرب" حدث حين تكوين الكرة الأرضية، إذ شاءت العناية الالهية بأن تكون الصناعة في الغرب والطاقة في شرق الكرة الأرضية، وكان الاجدر بأن يكون كلاهما في القارة الباردة، لأن المجتمعات الشرقية الغنية بالطاقة - الدول العربية - أضحت عاجزة وغير قادرة على استغلال تلك الطاقة بالشكل الأمثل، وحتى لو استطاعت، فانه لا يسمح لها ان تكون دول صناعية، رغم إنها أصبحت بلدان غنية بالمال حد التخمة بسبب امتلاكها لهذه الموارد، ومن هذا المنطلق عملت الدول الغربية على أن تكون دول الطاقة سوقاً استهلاكية رائجة لصناعتها على غرار الدائرة الاقتصادية المغلقة، مع عدم تمكين تلك الدول من الابتكار الصناعي، لوأد روح المنافسة في مهدها.

لذلك تم العمل على خلق الحروب والصراعات المستدامة في منطقة الشرق الاوسط، صاحبة الطاقة والمال، بهدف سلب الثروة وتعطل التنمية المستدامة، وكل بادرة او تنمية صناعية ناشئة في تلك البلدان، لتكون سوقاً غنية لتصريف بضاعتها الحربية والسلعية، فشاهد المرء، الى جانب الصراع العربي - "الاسرائيلي" المستمر، وتحوله الى صراع فلسطيني - "اسرائيلي"، كيف كانت الحرب العراقية - الايرانية مدمرة للاقتصاد والبشر، واستهلكت فيها ملايين الاطنان من الاسلحة الغربية على مدى ثمانية سنوات، تبعتها حرب الكويت وتدمير الآلة العسكرية العراقية، والتي انتهت بإحتلال أمريكا للعراق عام ٢٠٠٣ والقضاء على كل شيء مبتسم فيه، بعد تدمير بنيته التحتية الصناعية بالكامل، والتوجه غربا الى سوريا، لمحاربة ما يسمى "بمحور الشر"، وتدمير الصناعة الناشئة هناك، ولم تكن ليبيا الواقعة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط بمنأى عن آلة التدمير والفوضى، كذلك لم تسلم اليمن السعيد جنوبا من آلة الخراب والتقسيم، كما هو الحال مع السودان، وتجويع مصر، حيث تم اعادة العدد الاكبر من تلك البلدان الى الدائرة الصفرية، وجعل مجتمعاتها بدائية تعصف بها النزعات القبلية والتطرف الديني والمذهبي، والتخلف الفكري والثقافي، اضافة الى فتك الفقر، وانتشار الامراض والأوبئة، وفقدان الامن والأمان.

ولم يكتف الاعداء الغربيين المتربصين بمصائر الشعوب بهذا القدر من الدمار لدول الشرق، فقاموا بصناعة الجماعات الارهابية المتطرفة مثل "القاعدة" و"داعش" بإعترافهم، لتقوم بحروب داخلية بالنيابة، كانت اكثر فتكاً وتدميراً، الامر الذي ادى الى هجرة عدد كبير من سكان الشرق الاوسط الى اوربا، بحيث وصلت تلك الهجرة اوجها بعد عام ٢٠١٤ حين شنت الحرب بمباركة دولية ضد عصابات داعش الارهابية بقيادة امريكا بالتحالف مع دول الاتحاد الأوربي، حيث قدمت الاخيرة دعماً مالياً وعسكرياً ولوجستياً منقطع النظير لإدامة الحرب في بلدان الشرق الاوسط العربي، والتي ادت بالنتيجة الى هجرة جماعية للعوائل الامنة من سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان وافغانستان، وايران، وكذلك من دول أخرى في شمال افريقيا باتجاه القارة الباردة.

كان على دول الاتحاد الأوربي استيعاب، دون اعتراض، هذا الكم الهائل من اللاجئين الباحثين عن مأوى يتوفر فيه الامن والأمان والدعم المادي والمعنوي، الذي فقد في ليلة وضحاها بسبب الحروب والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي خسرت دول الاتحاد الاوربي استثماراتها ونفوذها السياسي والاقتصادي في منطقة شرق البحر المتوسط، خاصة في دول الصراع العربية، بل ومنعت من الاستثمار فيها، في حين تمتلك تلك الدول العربية من الطاقة والموارد، لو تم استثمارها بشكل علمي، وعلى اساس المنفعة المتبادلة، من قبل دول الاتحاد الاوربي، لكانت منطقتي الشرق الاوسط واوربا من اغنى المناطق الاقتصادية في العالم.

لذلك باتت الدول الاوربية غير قادرة على عمل توازن بين مصالحها في الشرق الاوسط والانفاق الكبير على اللاجئين والمهاجرين، الذين اصبحت تغص بهم البلدان الاوربية، حيث صاحب ذلك ازمات اقتصادية وصحية بدات تعصف بقوة باقتصاديات العالم، خاصة اقتصاد دول الاتحاد الاوربي القائم على الاستثمارات والتجارة الخارجية، أي إنه يرتكز على المردود المالي للأسواق العالمية وإيرادات الضرائب التي تدفعها الشركات والمواطنين، في الوقت الذي تتنافس الشركات الامريكية والأوربية على الاستثمارات داخل القارة الباردة، بعد ان بدأت الشركات الامريكية تستحوذ على المشاريع الكبيرة في دول الاتحاد الاوربي، وتمنعها من القيام بتنفيذ مشاريع طاقة كبيرة لتوريد النفط والغاز من روسيا الى اوربا، التي يستهلك اغلب بلدانها ما يقارب 80% من الطاقة الروسية بسعر مخفض بنسبة ٣٠٪ عن سعر السوق العالمية، خاصة بعد ان تم انشاء خط انابيب نورد ستريم٢ العملاق تحت مياه بحر البلطيق، ليغذي دول المانيا والسويد والدنمارك والنرويج بالطاقة الروسية مخفضة الكلفة، والذي واجه معارضة كبيرة من قبل السفارة الامريكية في برلين، وطالبت الشركات الاوربية بايقاف تنفيذه في السنوات السابقة.

وجاء ذلك بسبب الموقف الامريكي الرافض للتقارب الروسي - الأوربي بخاصة الروسي - الألماني، الذي دق ناقوس الخطر لدى الادارة الامريكية بعد مد خط انابيب نورد ستريم٢، الذي بدأ يعمل قبل بدء الحرب في أوكرانيا، وكان على امريكا ان تتصرف لتوقف، وبشتى الوسائل والطرق، هذا التقارب السياسي والاقتصادي الخطير، الذي جعل دول الاتحاد الاوربي تتحدث، في الاونة الاخيرة، عن مكانة مرموقة لمصالحها الاقتصادية تجاه المصالح الامريكية، التي اخذت تغزو دول القارة الاوربية، وتهيمن على اقتصادياتها، في الوقت الذي يجب على دول الاتحاد رصد اموالا طائلة للاجئين الفارين من بلدانهم بسبب الحروب الامريكية في الشرق الاوسط، وصناعتها لعصابات (داعش) الارهابية، دون اعتراض اوربي يذكر.
عملت الادارة الامريكية على افشال التقارب الروسي- الاوربي، الذي كانت تقوده شخصيات سياسية اوربية معروفة من المانيا، والنمسا وايطاليا، ودول اوربية اخرى، وذلك حين بدات امريكا تتظاهر بالانسحاب من سوريا نهاية عام ٢٠١٨ باتجاه العراق، وفسح المجال للرئيس بوتين بملىء الفراغ هناك بحكم علاقته الوطيدة مع الرئيس السوري حافظ الاسد، حيث جاء القرار الامريكي بعد محادثات بشان تقسيم النفوذ في سوريا بين روسيا وامريكا وتركيا ونظام حافظ الاسد، وبذلك اوهمت الادارة الامريكية بوتين باعطائه نفوذاً اكبر في سوريا، خاصة فيما يتعلق بقاعدة طرطوس البحرية في سوريا والمناطق المجاورة لها على ساحل شرق البحر المتوسط، وتعهدت لروسيا بالابقاء على نظام حافظ الاسد.

لكنه في نفس الوقت كانت امريكا تقود تظاهرات في اوكرانيا لتغيير نظام الحكم الموالي الى روسيا من خلال سفارتها ومساعدة سفارات الدول الاوربية في العاصمة الاوكرانية كييف، وقد تحقق لها ذلك بعد ان قادت تظاهرات شعبية في الساحات بشكل علني بداعي القضاء على الفساد والفاسدين في اوكرانيا، وتم تغيير النظام والاتيان بالممثل الكوميدي زيلنسكي الموالي لامريكا ليكون رئيسا للبلاد، وبذلك اصبحت روسيا على المحك مع حلف الناتو، خاصة بعد ان بدات امريكا تعزز من تواجدها في اوكرانيا وتحثها على الدخول في حلف الناتو، إضافة الى اثارة موضوع المختبرات البيولوجية الامريكية في اوكرانيا وعمليات التجسس الامريكية هناك.

حينها استفاق الدب الروسي من حلم السيطرة والنفوذ في الشرق الاوسط، واخذ يعد العدة للدفاع عن حدود روسيا المتاخمة لدول حلف الناتو، لحمايتها من الخطر الغربي الذي لا يخلوا من الاطماع في مصادر الطاقة الرخيصة التي غزاها هتلر في الحرب العالمية الثانية، وبذلك رأت روسيا بانه لا سبيل لها سوى شن الحرب على اوكرانيا لافشال مشروع دخولها في حلف الناتو والاتحاد الاوربي، وابعاد امريكا قدر الامكان من القيام بنشاطاتها الاستخبارية والبيولوجية على الحدود الروسية، فشنت الحرب على اوكرانيا في شباط ٢٠٢٢ .

بدأت حرب الاستنزاف الروسية - الاوكرانية بمباركة ودعم امريكي علني ومباشر لاوكرانيا، وأمرت دول الاتحاد الاوربي بالوقوف الى جانب نظام الحكم في اوكرانيا ودعمه بحربه مع روسيا، واعتبار هذه الحرب تمثل تهديدا لدول الاتحاد الاوربي، وتهدف الى تفكيك حلف الناتو، فلبت دول الاتحاد الاوربي النداء الامريكي وبدأت تنخرط في الحرب ضد روسيا دون التفكير بمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، كما انخرطت في حروب الشرق الاوسط الامريكية وتدفق الهجرة الى اوربا، واعلنت موقفها الرافض للحرب والداعم لاوكرانيا، وفرضت عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا بتوجيه أمريكي، وطرد بعض الدبلوماسيين الروس، رغم انها الخاسر الاكبر اقتصاديا في هذه الحرب لانها تستهلك القدر الاكبر من الطاقة الروسية، الامر الذي ادى الى ارتفاع حاد في اسعار الطاقة، وزيادة في نسبة التضخم، تعدت الـ ١١٪ في اكثر البلدان الاوربية، بعد ان تم تقليص امدادات الطاقة الروسية واغلاق خط انابيب نورد ستريم ٢، الذي تعرض كذلك للتخريب المقصود، وبذلك تدهورت العلاقات السياسية والاقتصادية الروسية - الاوربية حسب الارادة الامريكية، كما بقيت متلكئة في الشرق الاوسط

استطاعت الولايات المتحدة الامريكية، في نهاية المطاف، ان تحاصر دول الاتحاد الاوربي اقتصاديا من الشرق والغرب، فلا يسمح لها بالعمل والاستثمار في دول الشرق الاوسط، خاصة في الدول العربية الغنية بالموارد الاقتصادية والطاقة، باعتبارها مناطق نفوذ سياسي واقتصادي امريكي، ولا يسمح لها بالتحرك لايقاف الحرب في اوكرانيا، واعادة علاقاتها مع روسيا الفدرالية لمعالجة الازمة الاقتصادية والركود الاقتصادي والتضخم الذي تعاني منه كل دول الاتحاد الاوربي، التي باتت تعاني ايضا من مسألة الهجرة غير الشرعية المستمرة من اوكرانيا والبلدان الاخرى، في الوقت الذي تحاول عبثاً معالجة جبال الازمات من قممها وليس من قاعدتها، لانها تعرف جيداً بان الحل يكمن بيد الامريكان، وعليه اضحى حال دول الاتحاد الاوربي كحال "نساء حائرات" بين الزواج المبكر وتحمل الاعباء، وبين حياة العزوبية في اطار الحرية الشخصية، أي بين الهيمنة الامريكية منذ عقود مضت، واستقلالية القرار السياسي الاوربي الحر.

لقراءة المزيد من مقالات الكاتب اضغط على الرابط الاتي: مجلة معارج الفكر 

ليست هناك تعليقات: