الأحد، 17 مايو 2020

العقيدة الدبلوماسية

بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي
تعني الدبلوماسية في حقيقة الامر بانها الشهادة أو الوثيقة الرسمية التي تتضمن صفة المبعوث أو الرسول والمهمة الموفد من اجلها، وتعني في المعنى الدقيق تلك الرسالة التي تحمل في طياتها آمال وتطلعات ورغبات حكومة وشعب الى حكومة وشعب آخر يجهل ما في هذه المطوية من حيثيات  حتى يتم الإفصاح عنها من خلال رسل السلام المبتعثين.  
اما الدبلوماسي - تسمية مشتقة من وحي الدبلوماسية - وهو ذلك الرسول الأمين أو الشخص الطبيعي ذات الأهلية القانونية الذي يحمل تلك الوثيقة المقدسة ليبشر بها الى عالم مزدحم في العلاقات الدولية لم يكتشف الآخرون ما يحمله حتى يفضي بما تجود به قريحته ممثلا لشعب استودع فيه الأمانة بهدف ترطيب العلاقات الثنائية ومد جسور التواصل بين شعبين تختلف بينهما العادات والتقاليد والدين والنظم الدستورية والقانونية والمصالح السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وليس بالضرورة ان يكون الرسول ذلك الشخص المنافق ذو الوجهين كما يعرفه الاغريق والرومان في بعض ما يحمله الكلام من معنى.
ولهذا السبب يجب ان تتجسد في ذلك الرسول صفات الصادق الأمين الذي يتحلى بشخصية مثالية متزنة خالية من العقد والامراض النفسية وصراع الذات، ويتميز برحابة الصدر ورجاحة العقل وسمو الاخلاق التي تعكس الصفات الحميدة للشعب الذي تربى في ربوع روابيه وتنفس نسيمات هواءه النقية وشرب من ماءه فراتا عذبا .
وهذا التوصيف لا ينطبق على شخص دون سواه من موظفي الخدمة الخارجية وانما يجب ان يكون الجميع على قدم المساواة في الروحية والاندفاع والحرص لبلوغ الهدف المنشود، رغم انهم مختلفين من ناحية المهام الموكلة اليهم والسلم الوظيفي وتسلسل المراجع.
اما العقيدة الدبلوماسية  فهي الايمان المطلق من قبل الدبلوماسي بما تحتويه تلك الرسالة من قيم بعيدا عن الجحود والمغريات والمحافظة عليها والتبليغ بها حين تترسخ مفاهيمها في ضميره ووجدانه ليجود من وحي الالهام الإلهي بكل ما هو خير وصلاح لتحقيق آمال وتطلعات شعبه وبما يرضي الله والضمير والذات الإنسانية.
لذلك فان المرء لا يستطيع ان يغرس العقيدة الدبلوماسية "قسرا" في ذات الشخص ووجدانه، وانما هي نابعة وناشئة مع تربية الإنسان المجتمعية القائمة على حفظ الضروريات من الحقوق والواجبات وصون الحريات وكرامة الانسان وامنه المجتمعي في تلك الرقعة الجغرافية التي تربى وترعرع فيها مصحوبة بالاستقامة في العمل والثقة العمياء بالنفس وبالآخرين التي تقابلها الطاعة العمياء في تبليغ الرسالة بعيدا عن التربص والتشكيك والمراوغة والمحسوبية والمنسوبية على حساب المصلحة العامة.
فحين نناقش ماهية العقيدة الدبلوماسية يأخذنا الحديث الى رسول توفرت فيه مواصفات وصفات تبليغ الرسالة، بحيث لا يمكن الطعن بأمانته او المزايدة على إخلاصه، وأن لا يكون مُلكا لاحد وانما ملك للوطن والشعب، وهذه تربية أخلاقية ومجتمعية غرست في الذات الإنسانية كما اسلفنا ولا تخضع الى النباهة والفصاحة والحكنة "المصطنعة" والمحاباة في إدارة الأمور من قبل طرف يعتقد بانه يمتلك من الإخلاص والطموح ما لا يمتلكه الاخرون، والذي يقود في نهاية المطاف الى التشكيك في العقيدة الدبلوماسية التي يجب ان يؤمن بها الجميع صاغرين.  
والعقيدة الدبلوماسية تعني التحلي بالصبر والأخلاق الحميدة والإخلاص بالعمل والسعي من اجل تحقيق الإدارة الجيدة في التوظيف وتوزيع المهام من اجل تحقيق افضل العلاقات العامة على النطاق المحلي والإقليمي والدولي، وتقديم افضل الخدمات لأبناء البلد المغتربين والحرص على مصالحهم ، وان تكون أينما تكون مصلحة شعبك ووطنك، ولا تعني المزايدة على مصالح الوطن والشعب والتربص بالآخرين والتجني عليهم والإساءة لهم، وانما تعني الإخلاص للوطن والشعب وقضاياه المصيرية وزرع الطيب أينما حلت الراحلة وسارت ليزهر مسيرها وردا ورياحين يتنفسها الاخرون صعيدا طيبا. 

للأسف الشديد أضحت اغلب الدبلوماسيات في العالم لا تمثل الفكر البنيوي التنويري المعتدل الذي يهدف الى بناء علاقات طيبة على أساس المصالح المشتركة، وانما تمثل في كثير من الأحيان الفكر الانتهازي المتسلط المفروض  بقوة السلاح والنفوذ الذي يهدد المشتركات بين الشعوب ويقوض السلام والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة لكثير من المجتمعات المتقدمة منها والنامية.
وتؤثر الخلافات السياسية والمصالح الشخصية والطائفية والفئوية والعرقية في كثير من البلدان سلبا على أداء الدبلوماسي في مهمته التبشيرية التنويرية التي آمن بمبادئها السامية وأخلص لها ... ويعد الطعن بأهلية الرسول القانونية وشخصيته المعنوية تشكيكا بالعقيدة الدبلوماسية التي يؤمن بها وتشويها لوجهها الوضاح وتقويضا لعمله البناء، مما يجعل مهمته صعبة او شبه مستحيلة في كثير من الأحيان بسبب التخوين لأغراض التسقيط وليس من اجل المصلحة العامة، لتبقى العقيدة الدبلوماسية متأرجحة بين الشك واليقين.
لذلك فان العقيدة الدبلوماسية لا تفهم على اساس التداعيات النفسية والدعاية الذاتية وانما على اساس الممارسة العملية وقراءات الواقع ومستوى الانتاج الفكري والانتماء الوطني الروحي الذي يؤطر مساعي الشخص الدبلوماسي الذي اقترنت صفاته بصفة الانبياء الذين لو لم يبشروا بالايحاء الإلهي فانهم لن يبشروا بالكتب وبالرسالات السماوية السمحاء التي انزلها الله عليهم  حبا باخلاقهم وثقة بايمانهم وتعبدهم واخلاصهم لله الواحد القهار.