الجمعة، 11 ديسمبر 2020

سلاطين القارة المفقودة

بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي

يقول الشاعر : الناسُ للناسِ من بدوٍ ومن حضرٍ  ...   بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ. 

مما لاشك فيه، ان العلاقة الانسانية بين أبناء المجتمع الواحد، وحتى بين الدول، قائمة على أساس المصالح المشتركة والخدمة الانسانية المتبادلة. فحين يجلب التاجر البضاعة الى السوق مثلاً، فإنه يقدم بذلك خدمة انسانية الى المواطن المتبضع، حيث يقوم الأخير بدفع ثمن الحاجة التي يشتريها الى صاحب البضاعة، وبذلك يكون قدم خدمة الى التاجر وهي المال مقابل خدمته التي أسداها اليه.

وهكذا هي ببساطة علاقة الدولة مع المواطن، فكلما زادت من تقديم خدماتها الى المواطن، قام المواطن مسروراً بتقديم خدمة الى الدولة تتجسد باحترامه للقانون والتزامه بالنظام، ودفع الضرائب وتكاليف الخدمات، والمحافظة على المال العام، والدفاع عن النظام والوطن، وغيرها من الامور التي فيها منفعة متبادلة. وينطبق هذا التوصيف ايضاً على موظفي الخدمة العامة، ومنهم الأطباء ورجال الأمن والجيش، وكذلك أصحاب الحرف اليدوية في تعاملهم وتقديمهم الخدمة الى المواطن في الحيز الاجتماعي الذي يعيشون فيه، والذي يعكس بالتأكيد طبيعة العلاقة بين الدولة (النظام السياسي) والمجتمع (الشعب)، بعيداً عن التناحر والبغضاء والعداء والكراهية والحقد الأعمى، الذي يعمي البصيرة ويجهم الوجوه ويقسي القلوب.

الغريب الذي نشاهده في مملكة القارة المفقودة، التي تقع حيث تشرق الشمس، والتي ينعدم فيها الامان والزمان والمكان، افتقارها الى هذه العلاقة الانسانية الحميمة بين السلاطين والشعب، والتي من المفروض ان تكون قائمة على أساس الجودة في تقديم الخدمات والمحافظة على الكيان الاجتماعي والأمن الداخلي والخارجي للمملكة بمنعزل عن الخوف وانعدام الثقة بين الطرفين – المواطن والسلطان.

والسبب في ذلك واضح تماماً، فقوانين المملكة في القارة المفقودة تنص على أن يكون السلطان، حين اعتلاءه للعرش، محاطاً بالأعداد التقليديين والمعارضين من داخل المجتمع، الذي يتسيد عليه، ويستمد قوته منه، واذا لم يكن هناك أعداء من الداخل، فإن من أتى به الى السلطة يقوم بصناعة هؤلاء الأعداء من الخارج ليزاحموه على كرسي المملكة، بهدف ان يقوم السلطان "المرعوب" بتدمير مقدرات المملكة المادية والبشرية، فالذي لم تطوله يده يطوله سيفه، وذلك لعدة أسباب يرونها اعداء المملكة جوهرية منهــــــــــــــــا: 

أولاً: ضمان بقاء هذا الحاكم او ذلك السلطان والملك موالياً لهم ومطيعاً لأوامرهم، وبذلك يتم مصادرة القرار السياسي للمملكة. ثانياً: جعل الحاكم يشعر يقيناً بأن الملاذ الآمن له، حين تخرج الامور عن السيطرة، هو في حجر الذين جاءوا به الى السلطة ودعموه في ممارسة القتل والترهيب. ثالثاً: وهذا الأهم، جعل الحاكم يشعر بالخوف الدائم من محيطه الاجتماعي ليقوم باستباحة أموال المملكة وصرفها على المقربين منه، وعلى اجهزة الأمن الداخلي والمخابرات والحراسات الخاصة به والجيش لحماية الاسوار، اذا ما زُجَ في حرب طاحنة هو في غنى عنها تأتي على الاخضر واليابس، ويهمل في الجانب الاخر الإنفاق على التعليم والصحة والصناعة والبحث العلمي والبنى التحتية والرعاية الاجتماعية والتنمية البشرية المستدامة، التي تعد من المقومات الاساسية لتطور وتقدم البلدان اجتماعياً وثقافياً وعلمياً كما نرى الان. 

وعلى مرور الايام يصبح سلطان المملكة دكتاتوراً، لا يرى من الامور الا سيئها، حيث ينظر الى الرعية من ابناء جلدته على انهم اعداء يتربصون به للإستحواذ على العرش، فيزداد الطغيان والظلم والاهمال، وتتفشى الأمراض والأوبئة، وتنتشر الأمية، التي يصاحبها التراجع في المجالين الثقافي والفكري، وتتحول المجتمعات النامية تدريجياً من مجتمعات حية منتجة الى حدٍ ما الى مجاميع متخلفة منقسمة على نفسها، ومستهلكة لكل شيء سيء في الحياة.

وهنا تبدأ هجرة الشعب المهولة الى خارج القارة، التي فقدت رمزيتها وانعدمت شخصيتها وتلاشى كيانها. اما الذين بقوا فيتعرضون للظلم والاضطهاد وسوء العذاب في البلاد، بينما يعذب الهاربون في مناطق لجوءهم، ويلاقون في طريق هجرتهم الوان من الموت، فمنهم من يموت غرقاً أو عذاباً أو ضياعاً أو استئصالاً لاعضاءه البشرية، أو يضطرون لبيع اطفالهم. وفي ذات الوقت تبدأ المساعي المحمومة لاعادتهم من حيث جاءوا، حيث تنتظرهم الاهوال وسوء الحال ورحلة الضياع، وتغيير في الطبيعة الديموغرافية للارض والسكان. والمستفيد من هذا كله هم اعداء المملكة فقط، الذي يحتلون ويستوطنون ويتمكنون، بعد ان تخلصوا من أمة كانت تشكل عليهم خطراً، وربما تكون شيئاً لو بقيت وأمنت وأستقرت وتمتعت بحقوقها. لكن كل ذلك بات في مهب الريح وضرباً من الخيال.   

وبين هذا وذاك، يتحول السلاطين الطغاة وحاشياتهم من حلفاء للإنسان وعبدة لله تعالى، يعملون لمرضاته، الى عبيد للشيطان، الذي أغواهم بحب السلطة وامتيازاتها لينطبق عليهم قوله تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } [الحشر : 19] 
لقراءة المزيد من مقالات الكاتب اضفط على الرابط الاتي:مجلة معارج الفكر

ليست هناك تعليقات: