بقلم: الدكتور
زاحم محمد الشهيليتُعرّف "الحضارة" بأنها نتاج تفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية، لترويضها
وتسخيرها لإرادته، بهدف استغلال إمكانياتها، حيث يكون للإنسان الدور الرئيسي في
تكوين الحضارة الإنسانية الى جانب دور عوامل البيئة الطبيعية والموقع الجغرافي،
التي تؤثر في الحوادث التاريخية، وتكسب الحضارة طابعاً مميزاً لكل بلدٍ من
البلدان.
كان لموقع العراق الجيوسياسي وموارده الاقتصادية، وما
يزال، أثراً مهماً في سيرته الذاتية التاريخية،
سواءٌ من الناحية الثقافية أو الإقتصادية أوالسياسية أو
أهميتهِ العسكرية، أو من ناحية التنوع في تركيبته السكانية واتصالاته بمحيطه
الاقليمي، مما جعلهُ أن يكون مؤثراً في مسيرة التأريخ والحضارة الإنسانية، وتكون
له مكانة مهمة في تأريخه القديم والحديث، ليس لأنه "مهد الحضارات"
البشرية فحسب، بل لأنه غنيٌّ ايضاً بثرواتهِ الطبيعية، اضافة الى أهميته العسكرية
بالنسبة للأقوام المتعاقبة التي استوطنته. حيث أكسبه هذا الموقع ميزةً جعلته
مشرفاً على القسم الشرقي من الشرق الاوسط. وهذا الجزء من الشرق مهمٌ في موقع
العراق الجغرافي لأنه يقع على الجسر الارضي الذي تلتقي فيه قارات العالم الثلاث
آسيا وأفريقيا وأوروبا.
ونتيجةً لهذه المميزات، فقد أُنشأت في بلاد ما بين
النهرين المسماة Mesopotamia امبراطوريات ودويلات عديدة اشهرها
"سلالة بابل" الأولى (1894- 1595 ق.م.)، التي اشتهرت بملكها السادس
"حمورابي" (1792-1750ق.م.)، الذي سن القوانين الحديثة لتنظيم حياة
المجتمع، والتي دونتْ في مسلتهِ الشهيرة التي نشاهدها اليوم في متحف اللوفر
بفرنسا.
إن ظهور الامبراطوريات والدول
والتكوينات السياسية في الأقسام الجنوبية من العراق في حدود اربعة آلاف سنة قبل
الميلاد، أوجدَ الحاجة الماسة الى سن القوانين والأعراف، لتتمكن هذه التكوينات
السياسية من تسيير أعمالها اليومية وإدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والثقافية
والاجتماعية، مما دفع العراقيين القدماء الى اكتشاف الكتابة في وقتٍ مبكر، والتي
عرفها العالم من خلالهم فيما بعد، لاهميتها في تدوين قوانينهم واخبارهم ومعاملاتهم
الاقتصادية والقضائية ومنتوجهم الأدبي والفكري. حيث يشير ذلك الى وجود مجتمعاتٍ
متطورة حضارياً وعلمياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، قطنت العراق في تلك
الفترة الموغلة في القدم، لتكون الأساس والانطلاقة الأولى للتطور الحضاري والفكري،
الذي نشهده الآن في العالم الحديث.
ولكي نثبت العلاقة بين الماضي
القديم والحاضر المتقدم، نشيركم الى قانون حمورابي، أشهر ملوك العهد البابلي
القديم وسادس حكام سلالة بابل الأولى، الذي حكم في الفترة ما بين 1792 الى 1750
ق.م. الذي عُدَّ من أكثر القوانين المكتشفة تقدماً من ناحية الاعداد والتنظيم،
مقارنةً بالقوانين المكتشفة الاخرى، والذي ظل المحور الاساس لأي دراسة تاريخية
قانونية في العراق القديم لكونه أكمل وأنظم قانون مكتشف حسب ما ذكر في دراسات
الباحثين ورجال القانون. وكان لحقوق الانسان نصيباً كبيراً في هذه التشريعات، التي تهدف الى
تنظيم الحياة الاجتماعية للعراقيين في تلك الفترة الموغلة في القدم.
وشريعة حمورابي، التي وضعت تحت شعار - "من
أجل أن لايضطهدُ القوي الضعيف، ومن أجل ضمان العدل لليتيم والأرملة ... ومن اجل
نشر القوانين والقرارات العادلة في البلاد، ومن أجل ضمان حق المضطهد" - كانت
الأكبر حجماً والأكثر شمولاً، وتتكون من 282 مادة قانونية، منها 92 مادة تخص
المرأة فقط، حيث وجدتْ العديد من النصوص التي تنظم حياة الأسرة
وتحفظ مكانة ودور المرأة البابلية في العراق القديم. الامر الذي يشير بوضوح الى ارتقاء تشريع حقوق الإنسان الخاص بالمرأة والعناية بأمورها.. فقد كان للمرأة حق الطلاق من زوجها، ولها حق
رعاية الأولاد، وحق ممارسة العمل التجاري، ولها أهلية قانونية وذمة مالية مستقلة
عن ذمة زوجها، ولها الحق في الرعاية والنفقة، وحق التقاضي والتمتع
بالشهادة الكاملة كالرجل تماما، كما وضُعت عقوبات قاسية على الشخص الذي يسيء معاملة المرأة، أو ينتهك حقاً
من حقوقها الثابتة في القانون المذكور.
وإذا
تزوج رجل امرأة وأصابها مرض خطير، وعزم على الزواج من امرأة ثانية فيمكنه أن يتزوج
ولا يجوز له أن يطلق الزوجة المصابة بالمرض الخطير، ولها أن تسكن في البيت الذي
بناه، ويستمر (الزوج) في تحمل (مسؤولياته) مادامت على قيد الحياة. وللزوجة أن تأخذ حصة كواحدة من الورثة من أموال
بيت زوجها، فإذا أساء أبناؤها معاملتها لأجل إخراجها من البيت فعلى القضاة أن
يستقصوا قضيتها ويصدروا عقوبة على الأبناء، ولا تخرج هذه المرأة من بيت زوجها، أما
إذا قررت تلك المرأة الخروج من بيت زوجها، فعليها أن تترك
لأبنائها
الهبة التي منحها زوجها لها، ولها أن تأخذ هدية بيت أبيها، ولها أن تختار الزوج
الذي (يناسب) رغبتها. أما
اذا تسبب رجل في ان يشار بالاصبع الى كاهنه أو على زوجة رجل، ولكنه لم يثبت
(اتهامه) فعليهم ان يجلدوا هذا الرجل امام القضاة ويحلقوا نصف شعر رأسه. أما من الناحية الدينية فكان للمرأة قسط هام في
الكهنوت وادارة المعابد وإقامة المراسم الدينية. وبقدر هذا الحقوق فان هناك قوانين قاسية رادعة
للزوجة في حالة الإساءة لزوجها، أو ارتكابها لجريمة الخيانة الزوجية، أوتركها
لزوجها بدون سبب مقبول قانونياً.
ونرى ايضاً شيئاً من هذه الحقوق في بعض القوانين
القديمة للأقوام، التي استوطنت في العراق على مر التأريخ، والتي جردت قانون
حمورابي من صفة الاسبقية في الصدور، كشريعة (اورنامو) وهي شريعة سبقت في القدم شريعة حمورابي الشهيرة، والتي تنص:
"اذا ازال رجل بكارة امة رجل اخر بالإكراه، عليه ان يدفع غرامة مالية
قدرها خمسة شيقلات من الفضة. واذا مات رجل, فبعد موته تنتقل نصف
املاكه الى زوجته, والنصف الاخر الى أولاده. أما شريعة (اشنونا) فنجدها تنص على
الآتي: "اذا
طلق رجل زوجته بعد ان ولدت منه واخذ زوجة ثانية فسوف يطرد من بيته وتقطع علاقته
بجميع من حوله وليتبعه من يريد." ونقرأ في شريعة (بيت عشتار) ما نصه:
"اذا فقدت زوجة رجل نظرها او اصيبت بالشلل فلا
يجوز اخراجها من البيت، واذا تزوج امرأة ثانية عليه اعانة الزوجة الأولى المريضة.
أما اذا لم تلد زوجة أطفالاً لزوجها, ولكن امراة اخرى ولدت له اطفالا دون عقد زواج
عليه ان يعين هذه المرأة مع الاطفال التي ولدتهم له، وسيكونون ورثته، ولكن لايحق
لها ان تعيش مع زوجته في نفس البيت." وهناك قوانين قديمة أخرى مثل شريعة (أوركاجينا
راور)، و(نموولبت)، التي تشيرُ ايضاً الى تطور القوانين في تأريخ المجتمع العراقي
القديم، بما يتلائم وتطور المؤسسات والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
والثقافية فيه، حين كان المجتمع يقوم على الانتاج الزراعي البدائي ويسوده الخوف
نتيجة استمرار الحروب والغزوات.
وهناك نساء في العصور القديمة للمجتمع العراقي
قمن بإدارة البلاد أو القضاء، ومن أهم الامثلة على تبوء المرأة مقاليد الحكم جاءت
من العصر السومري، اذ يُذكر في قائمة تسلسل الملوك السومرية أن أمراةً تدعى
((كوبابا kubaba))
كانت قد استولت على عرش مملكة كيش في حدود 2420 ق.م. وتمكنت من حكم البلاد في تلك
الفترة. وكان منهن حاكمات مقاطعات مثل أميناي Aminai التي حكمت في حدود 1380 ق.م. وللمرأة العراقية مشاركات في العزف
على الآلات الموسيقية والغناء في مختلف العصور.
وسجل الآشوريون سابقة مهمة وفريدة من نوعها في
تأريخ العراق القديم في الألف الثالث قبل الميلاد، حين تولت أمرأة المنصب الأعلى
في دولتهم بعد موت زوجها الامبراطور شمشي، الذي خَلّفَ وراءه أبنه القاصر أدد – نرازي الثالث، فتولت أمه شمورامات (التي
عُرفت في المصادر الكلاسيكية اليونانية واللاتينية بأسم سميرا أميس) الحكمَ وصيةً
على ابنها، وحكمت البلاد نائبة عنه لمدة خمس سنوات.
وتجدر الاشارة هنا الى أن شريعة حمورابي قد نظمت
الكثير من أمور القضاء والقضاة، وشهادة الزور والاتهام والكذب والسحر ، وعمل
العمال وحقوقهم. فقد كان للعامل الحق في التمتع باجازة مدفوعة الأجر، كما حددت
اجور العمالة اليومية واجور العمال الزراعيين، ونظمتْ عقود العمل وأجور الحرف
اليدوية. كما عالجتْ المواد (48 الى 52) من شريعة حمورابي حالات تسليف الفلاحين،
واقراضهم مبالغ من المال من أصحاب رؤوس الاموال، مقابل فوائد ثابتة أو نسب معينة
من انتاج الارض. وأقرتْ شريعة حمورابي حماية خاصة لاموال الاشخاص،
وفرضتْ العقوبات على من يعتدي عليها، كما فرقتْ بين عدة انواع من الجرائم، منها
الاعتداء على الاموال والسرقة وهروب الرقيق واختطاف الأطفال.
ان تطور التشريعات
القانونية، التي تحفظ حقوق الإنسان والمرأة في مفهوم ذلك الوقت في بلاد مابين
النهرين كانت ملازمةً للنهوض الحضاري، الذي شهدته تلك الحقبة الزمنية من تأريخ
العراق القديم، الذي يؤكد تطور النظمُ السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية
فيه، والتي تشير الى وجود حضارة متطورة ... وعليه نستطيع أن نستخلص من دروس
التأريخ، بأن هناك علاقة وثيقة بين العدالة الاجتماعية والتشريع القانوني، الذي
يصون حقوق الإنسان، وبين النهوض الحضاري الذي تتطلع اليه الأمم والشعوب في العالم.
"فالإنسان يبدع في الحيز الذي هو فيه، ويستطيع أن يقدم المزيد من العطاء،
عندما يشعر بالطمأنينة على كيانه الشخصي والعائلي والفكري، وتصان حقوقه
وواجباته."
لذلك فإن مقولة حمورابي
التي ارتكزت عليها مسلة التشريع هي عنوان مجدٍ وعظمة له ولغيره من ملوك تلك الحقبة
الزمنية، الذين أستطاعوا عن طريق القانون واحترام العدالة والقيم الإنسانية بناء
حضارة وادي الرافدين العظيمة لتنهل منها الحضارات الأخرى في وقتٍ كان فيه
الظلام يغطي ارجاء المعمورة.
لقراءة المزيد من مقالات الكاتب اضغط على الرابط الاتي:مجلة معارج الفكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق