بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي
بعد ان وضعت
الحرب العالمية الأولى أوزارها عام ١٩١٨، أُعلن عن تأسيس منظمة عصبة الأمم عام
١٩١٩ بمــوجب معاهدة فرساي، بناءً على مقترح بريطاني وتبني أمريكي للفكرة، بهدف
تعزيز التعاون الدولــي والعمل علــى تحقيق الأمـــن والسلم الدوليين، لكن هذه المنظمة لم
تستطع كبح جماح الدول الاستعمارية والقوى الفاشية للحيلولة دون اندلاع الحرب
العالمية الثانية عام ١٩٣٩.
الجدير
بالذكر، ان ميثاق منظمة عصبة الأمم كان صارماً تجاه الدول الأعضاء بما فيهم
الأعضاء المؤسسين لها، والدول العظمى، حيث كان بالإمكان فصل اية دولة عضو تقوم بعدوان
غير مبرر ضد دولة أخرى بداعي عدم انصياعها لقرارات المنظمة وخرقها للميثاق، والذي
يعد خرقاً للقانون الدولي وتهديدا للسلم والأمن الدوليين وسيادة الدول. وبذلك كان
لعصبة الأمم أدوات ردع واضحة نوعاً ما تجاه الصراعات والحروب التي حدثت في الفترة
ما بين ١٩٢٠-١٩٣٩.
حيث كان من
ضمن جملة القرارات الإجرائية، التي اتخذتها عصبة الأمم، انها قامت بفصل الاتحاد
السوفيتي السابق من العضوية عند اعتداءه غير المبرر على فنلندا في حرب الشتاء ١٩٣٩
بهدف تامين حدوده مع المانيا النازية، وفُرضت عقوبات اقتصادية صارمة على إيطاليا
حين غزت الحبشة عام ١٩٣٥. وبعد انسحاب المانيا واسبانيا من المنظمة تحت ذريعة عدم
تحقيقها للأمن الجماعي للدول الأعضاء، انسحبت بعدها امبراطورية اليابان بسبب صدور
قرارات صارمة ضدها لاعتدائها على الصين.
وعليه فإن
عدم تحقيق منظمة عصبة الأمم للسلم والأمن الدوليين، والحد من التسلح، جاء نتيجة لخرق
ميثاقها من قبل الدول المؤسسة لها والدول العظمى، من ضمنها بريطانيا العظمى
وأمريكا والاتحاد السوفيتي السابق. اما السبب الأعظم فكان عدم قدرة المنظمة على
احتواء المانيا بعد فرض عقوبات اقتصادية قاسية عليها بموجب معاهدة فرساي التي عقدت
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٨، حين تمت هزيمتها من قبل دول الحلفاء،
والذي جعل المانيا تشعر بالغبن والإجحاف، الامر الذي ولد كراهية في نفوس الالمان
تجاه شعوب وحكومات الدول الاوربية وبريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي السابق،
الدول الأعضاء في عصبة الأمم آنذاك.
ونتيجة لفشل
الدول الأعضاء في عصبة الأمم في تحقيق أهدافها الرامية الى أرساء السلام والأمن
والحد من التسلح، كما أسلفنا، تم استبدالها بمنظمة الأمم المتحدة الحالية عام ١٩٤٦،
التي أصبحت الوريث الوحيد للعقارات والأرشيف والوثائق.
لقد حرصت
الدول العظمى على إعادة صياغة ميثاق منظمة عصبة الأمم ليكون ميثاقاً للأمم المتحدة
حين ولادتها عام 1946، وبالشكل الذي أعطاها امتيازات كثيرة وكبيرة وحصانة في حرية
الاعتداء على الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، وحق الوصاية على الدول، وحق
الوصاية في اختيار الأمين العام للأمم المتحدة، واتخاذ القرارات الإجرائية الصارمة
بموجب الفصل السابع تجاه الدول التي تكون خصماً للدول العظمى أو تكون قد الحقت
ضرراً ما بمصالحها، وذلك في اطار عمل مجلس الامن الدولي التابع للأمم المتحدة،
والممثل من قبل الدول العظمى الخمس دائمة العضوية والدول غير دائمة العضوية، في
حال خرقت هذه الدولة او تلك ما يسمى بالميثاق.
ان عملية إعادة صياغة الميثاق، وتأسيس المجالس، من ضمنها مجلس الامن الدولي، وآلية انتخاب
الأمين العام والتصويت على مشاريع القرارات، وحق استخدام النقض (الفيتو) من قبــل
الدول العظمى، كانت تهدف الى تحقيق الغايات المتوخاة من وجود الأمم المتحدة لصالح
الدول دائمة العضوية في مجلس الامن لتقاسم المغانم والنفوذ العالمي على حساب الدول
الأخرى التي من السهولة كبح جماحها حين تخرق الأعراف والمواثيق الدولية، ومن هنا فُقدت
العدالة والثقة بالأمم المتحدة من قبل الدول الأعضاء كمنظمة دولية رائدة أضحت غير
قادرة على الإيفاء بالتزاماتها.
وعليه تبقى
القرارات الإجرائية الصارمة للأمم المتحدة ومجلس الامن الدولي غير قابلة للتطبيق على
الأعضاء الدائمين بسبب الحصانة والنفوذ التي يمتلكونها، وحتى لو طبقت فلم تكن بذلك
التأثير القوي والصارم كما هو الحال تجاه الدول الأخرى، بدليل حين غزا العراق
الكويت عام ١٩٩٠ لأسباب دبرت بليل اتخذ مجلس الامن الدولي بقيادة أمريكا كافة
قرارات الردع الصارمة بحقه، من ضمنها الحصار الجائر لمدة (12) عاماً لإماتة
المجتمع العراقي موتاً بطيئاً، بينما لم يحرك مجلس الامن الدولي ساكناً لردع
العدوان الأمريكي على العراق، حين غزته أمريكا عام ٢٠٠٣ ودمرته تدميراً كاملاً،
وأسكتت في ذات الوقت المنظمة الدولية عن جرائمها حين تمت تصفية مبعوث الأمين العام
للأمم المتحدة الى العراق السيد (سيرجيو دي ميللو) في نفس عام الاحتلال 2003،
نتيجة للتقرير الذي كشف فيه الوجه القبيح للسياسة الامريكية وانتهاكها لحقوق
الإنسان، والذي أكد بالدليل القاطع بان الأمم المتحدة باتت لا تستطيع حماية نفسها
فكيف تستطيع حماية حقوق الاخرين وأمنهم.
ناهيك عن
انتهاكات الولايات المتحدة، تحت ذرائع واهية، لسيادة الدول الأخرى في فيتنام
وأفغانستان وسورية واليمن وغيرها، والتي ما تزال تحترق امام مرأى ومسمع المجتمع
الدولي الذي تمثله الأمم المتحدة، وكما نشاهد اليوم أيضاً الحرب الروسية -
الأوكرانية التي أضحت حرب استدامة واستنزاف لتدمير مقدرات البلدان الاقتصادية
والبشرية، والتي ربما تفضي الى حرب نووية لتدمير العالم، حيث دبرت أسبابها بليل أيضاً من قبل دولة عظمى تريد ان تستحوذ على العالم دون رادع وبمساعدة الأمم
المتحدة ودول القارة الباردة أسيرة القرار السياسي الأمريكي بشكل مباشر او غير
مباشر.
لذلك فان
الأمم المتحدة أضحت مهددة اليوم اكثر من ذي قبل بأن تحل نفسها في نهاية المطاف
حالها حال عصبة الأمم لعجزها عن توفير الامن الجماعي للدول الأعضاء، ولأنها باتت
مستغلة من قبل الدول العظمى وعلى رأسها أمريكا لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب
مصالح وامن وسيادة الدول التي لا تمتلك السلاح النووي وملتزمة قدر الإمكان
بالمواثيق والأعراف الدولية التي من شانها حفظ الامن والسلم الدوليين.
وبناءً على
ما تقدم، فانه يمكن التكهن بان تقوم الأمم المتحدة بحل نفسها بعد ازمة أوكرانيا،
ومن المحتمل أيضاً ان ينتج عنها تكتل غربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية
وبريطانيا العظمى، وتكتل شرقي بقيادة الصين وروسيا كبديل لسياسة الامر الواقع عن
ما يسمي بالأمم المتحدة، وحينها تبدأ حرب باردة جديدة بين الكتلة الغربية والكتلة
الشرقية، والذي سينتج عملة نقدية شرقية وعملــــة غربية، وسباق تسلح غربي- شرقي، ربما
يفضي الى حرب عالمية بات العالم بأمس الحاجة اليها لتغيير واقع النظام اللاعالمي
الحالي، او ان يذهب الجميع الى بناء منظومة تكامل اقتصادي عالمي بقيادة العقلاء من
المعسكرين، وهذا الامر بعيد المنال.
لقراءة المزيد من مقالات الكاتب اضغط على الرابط الاتي: مجلة معارج الفكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق