يَذكرُ الباحثون في علم الاجتماع بأن
"الناس أجناس"؛ فمنهم من يكون ممتلئا بأخلاقه، وإنسانيته وتواضعه، وعلمه
وعمله، ومنهم من يكون فارغاً من كليهما، لكنه ممتلئا بشروره، وكبرياءه
الفارغة، وأنفته المتغطرسة، ولذلك يعيش فارغاً في الدنيا، ويموت
فارغاً في الآخر.
حيث أوجد الله تعالى الموت كمحصلة
نهائية في حياة الإنسان حين يبلغ كبره، ويصفر عوده، وتُشلُ حركته، وتتلاشى قدرته،
وتتهالك قواه، وتنفذ طاقته، ليتمنى الموت راحةً له، ولذلك يجب على الإنسان
الممتلىء خيراً في الدنيا أن يموت فارغاً في الآخرة.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول بأن كل ما
يفعله الإنسان في حياته من عمل، وغرور، وخوف، وما يتعرض له من إحراجات أو فشل،
يكون كل ذلك ثانوياً إذا ما واجه الموت، حينها يتلاشى كل شيء في حياته، تاركاً
وراءه ما هو مهم، وهو نتاجه في الحياة، وما قدمه من نجاح، وما أخره من فشل.
لذلك فإن خوف الانسان غير المبرر من فعل الأشياء
بشكل خاطىء، يغيب في ذاته وميض الإلهام الفكري والإبداع في سعيه، ولهذا السبب أو
ذاك يجب على المرء الإنخراط في العمل الذي يجد فيه الذات والراحة، وعدم الإجتهاد
في الانعزال عن الحياة العامة التي تضج بانشطة الإنسان المختلفة، وهذا الامر يتطلب
بذل الجهد بشكل مستمر، والتركيز في إستغلال المهارات الفطرية والمهنية الكامنة في
الذات البشرية من أجل تحقيق تقدماً ملموساً في الأهداف المرسومة في الذاكرة
الوهاجة، التي تتطلب من المرء الاجتهاد في العمل المتجسد في شحذ الهمم وتنمية
المهارات في التنفيذ، والتصرف بإسلوب لن يَقدمْ عليه من قبل، وبذلك سوف يدرك القيمة
الحقيقية التي جاء بها الى الحياة.
يقول أستاذ اللغة الامريكي السيد هنري
تود Henry Alfred
Todd في
كتابه الموسوم "متّ فارغاً"؛ بأن على الانسان أن لا يمتْ وهو ممتلىء بأفضل
أعماله، ففي "المقابر دفنت كل الروايات التي لم تكتب، والأعمال التي لم يقدر
لها ابداً أن تؤسس، والعلاقات التي لم تنته بالمصالحة"، فإن هناك أناس
سيندمون كثيراً، لان حياتهم ليس لها هدف، "ولربما سيضحون من أجل حزمة أصدروها
حين يرون الموت جلياً أمام أعينهم"، وكيف إنهم فضلوا نعيم الراحة على نعمة
العمل.
والجدير بالذكر هنا، ان العمل لا ينطوي على
طريقة كسب لقمة العيش فقط، وإنما يتجسد في أي جهد وتركيز يفعله الانسان، وعليه يجب أن يكون هناك وضوحاً في الرؤية والأهداف والدافع في كيفية التعامل مع العمل يومياً،
وصلة حياة الانسان، والانجاز المنتج، وعدم التكاسل، بما يحقق الذات الانسانية في
داخل المرء اولاً، ويؤرشف في نفسه الإخلاص والمواظبة، والابتعاد عن الكسل
والإتكالية، والإهمال، الذي ينعكس سلباً على شخصية الفرد أو المؤسسة أو أي مجال
حيوي آخر يعمل فيه.
ولا يعني موضوع "متّ فارغاً"
بالضرورة أن تنفق كل شيء على حياتك المهنية والعامة، أو أن تستنزف جهدك بشكل مفرط،
أو أن تعيش وكأنه ليس لديك وجود في الحياة، وإنما أن تقترح أفضل الأعمال في داخلك أمام
قائمة المهام الموكلة اليك، والتي من الممكن أن يتم إنجازها من خلال التقدم بثبات
في المشاريع التي تتفق مع إهتماماتك، في كل نواحي الحياة حيث تتوفر المتعة.
ويؤكد تود على ضرورة تجنب الراحة، لانها
تمثل مصدر خطر على حياة الانسان، حسب تصوره، كما إنها تؤدي الى الركود، وان
"حب الراحة عدو للعظمة، فالعظمة تستريح اذا ما حُفزت على الدوام"، أي أن
تقوم على الأمر الصحيح حتى وأن كان غير مريحاً، وأن يكون التفكير دائما بأن جوهر
العمل مرتبط بقيمة الإنسان، بحيث لا يكون الشخص مرآة تعكس سلبيات الآخرين، وإنما
عليه أن يعمل على إزاحة الركام ليكتشف المباديء الرئيسية للأهداف مهما كانت الصعاب،
بحيث يكون الإنخراط في العمل نابع من الذات وضمير مرتاح، وأن تغرس بذور اليوم لكي
تحصد ثمارها غداً، بعد ان تنفق ما بجعبتك من جهد علمي وإبتكار، وتبتعد كثيراً عن
حياة الخمول والراحة والخوف والإتكالية والأنفة والكبرياء الزائف، لكي "تموت
فارغا" في نهاية المطاف.
لقراءة المزيد من مقالات الكاتب اضغط على الرابط الآتي:مجلة معارج الفكر
هناك تعليقان (2):
لك كل التقدير دكتور زاحم فعلا الانسان يجب ان يشعر انه قد استفد كل الامكانيات التي وهبها الله له قبل فوات الاوان والحياة الحقيقيه تقاس على كميه العطاء وبذل الجهود لا بتحقيق اكبر قدر من الاهداف الشخصيه الضيقه دمت ودامت حروفك المباركة وينه سعيده عليك مليئه بالعطاء
تحياتي اخي الغالي استاذ احمد لمروركم الراقي واضافتكم القيمة ربي يحفظكم
إرسال تعليق